الكاتبة: ندى شريف
يمكنك على الأرجح أن تتخيل رقعة الشطرنج الآن، المربعات المتناوبة، والملمس البارد لقطعة الحصان بين يديك.
هل تشعر برغبة في الهجوم المبكر؟ هل ترى أنماطًا أم مجرد قطع؟ هل تخطط لحركة واحدة، أم لخمس حركات قادمة؟
في البداية، لم تكن الشطرنج وسيلة للتسلية، بل أداة للتدريب والإعداد؛ نموذجًا مبسطًا لمعركة تتطلب تنسيقًا وتفكيرًا استراتيجيًا.
ففي القرن السابع الميلادي، ازدهرت لعبة تشاتورانجا في شمال غرب الهند، وهي لعبة حربية قائمة على التفكير الإستراتيجي، تميزت بقطعة تمثل القائد بقدرات فريدة. ثم عبرت إلى بلاد فارس باسم الشطرنج، ومع توسّع العالم العربي في شمال إفريقيا والأندلس، وجدت طريقها إلى أوروبا بحلول القرن العاشر الميلادي.
لو تأملت قليلًا في جوهر اللعبة، ستكتشف أن الشطرنج لم يكن مجرد لعبة مسلية، بل نظامًا فكريًا منظمًا صُمم لتمكين القادة من تقييم المخاطر، وإدارة الموارد المحدودة، وتحقيق النصر الحاسم، عبر تفكيك قوة الخصم الأساسية، مع الالتزام الصارم بالقواعد، والعمل بمعرفة جزئية عن الموقف.
لكن أوروبا، في استجابتها لذلك التحدي، أعادت ابتكار اللعبة بالكامل.
ففي أواخر القرن الخامس عشر، حدث تحول ثوري في القواعد: تحولت المستشارة إلى الملكة القوية التي نعرفها اليوم، واكتسب الفيل القدرة على التحرك قطريًا لمسافات طويلة.
بهذا التغيير، انتقلت اللعبة من نمط بطيء قائم على الاستنزاف إلى منافسة سريعة الإيقاع تعتمد على الذكاء والبصيرة. أصبح الوصول إلى كش مات ممكنًا، وارتبطت التكتيكات بالسرعة والابتكار.
ومع مرور الوقت، أصبح الشطرنج منافسة عالمية موحدة المعايير.
ففي عام 1886 أُقيم أول بطولة عالمية للشطرنج بين شتاينيتز وزوكرتورت، لتتوج رسميًا اللقب الذي سعى اللاعبون إليه لسنوات.
وفي عام 1924، تأسس الاتحاد الدولي للشطرنج (FIDE) لتوحيد القوانين والبطولات والتصنيفات.
وفي النصف الثاني من القرن العشرين، ظهر نظام تصنيف Elo ليقدم طريقة دقيقة قائمة على البيانات لقياس تطور اللاعبين.
ثم جاءت التكنولوجيا لتدفع اللعبة إلى آفاق غير مسبوقة.
ففي عام 1997، حقق الحاسوب Deep Blue من IBM فوزًا تاريخيًا على بطل العالم غاري كاسباروف، في إنجاز كشف عن قوة الحسابات الفائقة وسرعة التحليل الحاسوبي.
وبعد عقدين، جاء AlphaZero ليُحدث ثورة جديدة؛ إذ تعلم الشطرنج بمفرده عبر اللعب الذاتي، مطورًا استراتيجيات مبتكرة وفهمًا عميقًا للعبة على مستوى يشبه التفكير البشري.
من هنا، برز التحول التكنولوجي من القوة الحاسوبية الخام إلى أنظمة التعلم الذاتي الذكية.
لماذا يُعتبر الشطرنج مختبرًا للتفكير الناقد؟
يتجاوز الشطرنج حدود المجاز، فهو تجسيد فعلي للفكر، فكرٌ مرسوم على لوحة.
كل حركة تتطلب العمليات العقلية نفسها التي نسعى إلى تطويرها في واحة التفكير.
لنحلل معًا عمليات التفكير الناقد في لعبة الشطرنج:
- تحديد المشكلة: ما طبيعة الموقف؟ هل التهديد يتعلق بأمان الملك؟ أم ببنية الجنود؟ أم بنشاط القطع؟
يتعلم اللاعب تسمية المشكلة بدقة قبل أن يتصرف. - التفكيك والتحليل: يقوم اللاعب بتقسيم الموقف المعقد إلى عناصر، تهديدات، احتمالات، خطوط قسرية، ثم يعيد دمجها في خطة متكاملة.
- الافتراض والاختبار: يسأل اللاعب نفسه: "إذا دفعت هذا الجندي، هل سيتمكن الخصم من الهجوم عبر العمود C؟"
كل خط تفكير هو فرضية، وكل حساب هو تجربة، وكل تقييم يستند إلى بيانات واستنتاجات منطقية. - ما وراء التفكير (Metacognition): بعد انتهاء اللعبة، يسأل اللاعب نفسه: ما الافتراض الذي أخطأت فيه؟ أي تحيز تسلل إلى قراراتي؟
هنا تتحول التجربة إلى مهارة، ويصبح التفكير في التفكير عادة ذهنية دائمة. - نقل المهارات: التخطيط تحت الضغط، موازنة الخيارات، واتخاذ القرار رغم نقص المعلومات، جميعها مهارات حياتية يومية في الواقع العملي.
ماذا تقول الأبحاث؟
تشير الدراسات الشاملة إلى أن تعليم الشطرنج يقدم تحسينات محدودة قصيرة المدى في الأداء الرياضي والمهارات الإدراكية العامة، خاصة عند تلقي الطلاب نحو 25 إلى 30 ساعة من التدريب المنظم.
لكن الأبحاث تشير أيضًا إلى أن هذه الفوائد تتضاءل عند مقارنتها بأنشطة تعليمية أخرى محفزة بالمقدار نفسه، مما يعني أن التأثير الحقيقي للشطرنج يعتمد على طريقة تدريسه، لا على اللعبة بحد ذاتها.
الخلاصة: الشطرنج بيئة مثالية لتعزيز التفكير النقدي، لكن تحقيق التقدم الأكاديمي يتطلب تدريسًا يربط التفكير بالممارسة بشكل واضح ومقصود.
نهجنا في واحة التفكير
نشجع في واحة التفكير على ممارسة الشطرنج والألعاب الإستراتيجية، لا كجوائز أو مسابقات، بل كـ صالات تدريب للعقل.
كيف؟
- اللعب المنهجي لا العشوائي: جلساتنا تتبع دورة تفكير واضحة: راقب → حدد → خطط → جرّب → قيّم.
- أسئلة محفزة للتفكير: كما في جلسات سقراطي التي تناقش المعضلات الأخلاقية، يتعلم المشاركون تحليل الموقف، وتفكيك المفاهيم، واستكشاف الخيارات قبل الوصول إلى القرار الأخلاقي.
- أدوات الاستنتاج: نبني لدى المتعلمين القدرة على اختبار الفرضيات وتقييم النتائج، وتكوين معرفة قائمة على التجربة.
- تحديات مقصودة: نصمم الألغاز والألعاب لتطوير مهارات التفكير المحددة دون إثقال المتعلم.
- التأمل والنقل: نختتم كل جلسة بتأمل قصير يربط قرارات اللعبة بالقرارات الواقعية في الحياة والعمل.
النتيجة؟
عادة عقلية تقوم على الرؤية الواضحة، التفكير المنهجي، واتخاذ القرار الهادف، وهي نفس الركائز التي نعتمدها في برامجنا المنتشرة في الأردن وقطر.
الألعاب الإستراتيجية تتطور، والفكرة تبقى
نضج الشطرنج من أشكال محلية إلى منظومة عالمية بمعايير موحدة، وتصنيفات شفافة، وبطولات دولية، ومحركات تحليل حديثة تتيح لأي متعلم أن يفكر كما يفكر الأساتذة الكبار.
القطع تغيرت، والأدوات تطورت، لكن الجوهر ظل ثابتًا: ساحة آمنة ومنظمة لتدريب العقل على التفكير الأفضل.
وهذا بالضبط ما نسعى إليه في برامجنا — سواء كانت في مجالات العلوم والهندسة والتكنولوجيا (STEM) أو في الحوارات الفلسفية، فجوهرها جميعًا هو:
تنمية مهارة التفكير الناقد، والتفكير في التفكير ذاته.
Resources
- Encyclopaedia Britannica – History of Chess. Encyclopedia Britannica
- Britannica – Chess overview. Encyclopedia Britannica
- First World Chess Championship (1886). Historical background and match details. Wikipedia
- FIDE (International Chess Federation). Founding (1924), governance, and scope. FIDE
- Elo Ratings – Adoption by federations. Historical note on USCF (1960) and FIDE (1970). ChessBase
- IBM Deep Blue. Technical capabilities and 1997 victory over Kasparov. IBM
- DeepMind AlphaZero. Self-play learning and breakthroughs in game strategy. Google DeepMind
- Frontiers in Psychology (Sala, Foley & Gobet, 2017). Meta-analytic view of chess instruction’s cognitive/academic effects and design recommendations. Frontiers
الشطرنج والتفكير النقدي | تاريخ الشطرنج | الاستراتيجية والمنطق في الشطرنج | التعلم من خلال الشطرنج | مهارات حل المشكلات | الشطرنج والتعليم | التفكير الاستراتيجي | برامج واحة التفكير | الشطرنج والتكنولوجيا | تنمية مهارات التفكير المنطقي

